"قصص تُوجِع القلب"، مسؤول أممي يصف معاناة النساء والفتيات في غزة والضفة الغربية، ويحذر من الأسوأ
"بعض القصص يدمى لها القلب" هكذا وصف منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، مهند هادي ما سمعه من النساء اللاتي التقاهن في قطاع غزة
ورأى هادي أن الوضع "يتدهور من سيء إلى أسوأ". وأعرب عن أمله في ألا يصل "الوضع السيء" في الضفة الغربية إلى حالة قد تؤدي إلى وضع كارثي كما هو الحال في غزة.
وفي حوار خاص مع أخبار الأمم المتحدة، قال هادي إن النساء اللاتي التقاهن في غزة شرحن له بعض المعاناة التي يعشنها كل يوم بما في ذلك "عناء تأمين الأكل، وعناء الذهاب إلى الحمام، وعناء الخصوصية. معظم النساء كن يطالبن بالخصوصية، لا يوجد عندهن أي خصوصية".
وأفاد المسؤول الأممي أثناء وجوده في نيويورك قبل أن يعود إلى القدس، بأن إحدى السيدات قالت له "أنا لست أنثى لكن لا أعرف من أنا، ولا أعرف ما أنا"، بينما سألته أخرى "قبل أن تذهب إلى نيويورك وتتكلم بالنيابة عني، هل أنت تراني إنسانا أم حيوانا؟"
وحدثنا هادي كذلك عن المعاناة التي شهدها في المستشفى الميداني للهيئة الطبية الدولية في مدينة دير البلح، مشددا على أن المستشفيات الميدانية "لا تغني عن المستشفيات التي نعرفها في الشكل المهني والطبيعي".
وجدد التأكيد على أنه "لا يوجد مكان آمن في غزة"، مشيرا إلى النزوح المتكرر للناس في غزة إلى أماكن يعتقدون أنها قد تكون آمنة. ونبه إلى الصعوبات التي يواجهها العاملون في المجال الإنساني التابعون للأمم المتحدة في إدخال المساعدات وإيصالها قائلا "غزة مقطعة الأوصال. حركتنا داخل القطاع ليست سهلة".
وعن الوضع في الضفة الغربية، شدد هادي على أن هناك تحديات كثيرة، مضيفا " أرجو ألا يصل الوضع إلى حالة من السوء قد تشابه أو قد تؤدي إلى وضع كارثي كما هو الحال في غزة".
وروى لنا قصص فتيات التقاهن في الضفة واللاتي حكين له "قصصا توجع القلب"، ولكن "رغم الأسى الذي تعيشه الطالبات اللاتي التقيتُهن، فإن لهن أحلاما ورؤية".
فيما يلي نص الحوار مع منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، مهند هادي.
أخبار الأمم المتحدة: سأبدأ معك بالسؤال عن الزيارة التي أجريتها مؤخرا لغزة. ما هي أكثر المشاهد الصادمة التي رأيتها هناك؟
مهند هادي: المشاهد التي رأيتها في غزة مشاهد مؤلمة. وهذه ليست أول مرة أرى فيها هذه المشاهد. للأسف، كل مرة أزور غزة أرى أن الوضع يتدهور من سيء إلى أسوء.
تكلمت مع مجموعة من النساء في غزة، شرحن لي بمنتهى البساطة بعض المعاناة التي يمررن بها كل يوم. على سبيل المثال، عناء تأمين الأكل، عناء الذهاب إلى الحمام، عناء الخصوصية. معظم النساء كن يطالبن بالخصوصية، لا توجد عندهن أي خصوصية.
إحدى النساء قالت لي "أنا لست أنثى لكن لا أعرف من أنا، ولا أعرف ما أنا". كانت لحظات صعبة في الحقيقة لي في غزة، أسمع قصص من النساء. في الحقيقة بعض القصص يدمى لها القلب. أنت تسمع أناسا يعانون الأمرين، ناس هم مثلنا في الحقيقة وكانوا يعيشون، وعندهم بيوت، وعندهم أسر، وعندهم أحلام، وعندهم آمال. وفجأة بدون أي ذنب اقترفوه، وجدوا أنفسهم ملقين في الشوارع، ينتظرون بعض الغذاء، وينتظرون أحدا يعطيهم خيمة يأوون أنفسهم فيها.
ملخص الحديث أنه في غزة يوجد مليونا قصة حزينة.
أخبار الأمم المتحدة: في المؤتمر الصحفي يوم الأربعاء 17 تموز/يوليو ذكرت نقطة مهمة أنه عندما تحدثت إلى الرجال والنساء والشباب في قطاع غزة، لم يكن هناك حاجز اللغة، كانوا يتحدثون بنفس اللغة وأنت تتحدث إليهم بنفس اللغة، ما هو الشيء الإضافي الذي ذكروه لك في تلك اللقاءات؟
مهند هادي: كون الإنسان يتكلم اللغة بدون أي حواجز وبدون أي ترجمة، هذه نعمة، ولكنها مسؤولية كبرى. عندما تسمع معاناة الناس بلغتهم، وعندما يوصلون لك هذه المعاناة بطريقة صادقة من القلب، وعندما يحسون أنك إنسان من المنطقة جارهم تفهم معاناتهم، تصير التوقعات أعلى، وسقف التوقعات يرتفع.
في حقيقة الأمر النساء سألوني "كل هذه القصص التي حكيناها لك ماذا ستفعل بها، وكيف تستطيع أن تساعدنا؟" قلت لهم أنا ذاهب لنيويورك وسأبلغ ما سمعته منكم، أنا سأكون صوتكم في نيويورك.
هذه هي حقيقة العمل الإنساني الذي نقوم به. نحن لا نقوم بعمل سياسي، بل عمل إنساني. وأنا دائما أحكي للسفراء أو للحكومات التي أتعامل معها، أقول لهم أنا سفير، ولكن لست سفير دولة، أنا سفير الأطفال، وسفير من لا صوت لهم، وسفير النساء، وسفير العجزة، وسفير الذين يعانون من ويلات الحرب، وويلات الأزمات.
إحدى النساء قالت لي "أنا لازم أسألك سؤالا إذا أنت ذاهب إلى نيويورك، قبل أن تذهب وتتكلم بالنيابة عني، هل أنت تراني إنسانا أم حيوانا؟"
أنت تعرف مدى صعوبة حتى إنك تُسأل هذا السؤال. انسَ موضوع إنك يجب أن تجيب عن هذا السؤال، كونك وضعت في مكان أن تسألك امرأة هل أنت تراها كحيوان أو كإنسان؟ لك أن تتخيل الصعوبات التي يمر بها هؤلاء الناس.
نعم هي نعمة، ولكنها مسؤولية كبيرة أن الناس يرونك منهم وتفهم لغتهم وتفهم معاناتهم. سقف التوقعات يزيد بشكل كبير.
أخبار الأمم المتحدة: زرت أيضا المستشفى الميداني للهيئة الطبية الدولية في دير البلح. ما هو مدى سوء الوضع هناك، وأبرز المشاهدات؟
مهند هادي: بالنسبة لموضوع المستشفيات، نوضح أمرا مهما شرحوه لي في منظمة الصحة العالمية أكثر من مرة عبر رحلتي المهنية مع الأمم المتحدة. المستشفى الميداني ذو إمكانيات وقدرات محدودة. والمستشفى الميداني لا يغني عن المستشفيات التي نعرفها في الشكل المهني والطبيعي.
لكن ما رأيته كان مؤلما جدا. رأيت عددا من الحالات، والناس الذين كانوا في الأماكن التي تم قصفها. ناس بترت أعضاؤهم. أطفال كانوا يعانون من سوء التغذية. وكانت معي الدكتورة حنان بلخي، المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية. وكونها هي أصلا طبيبة، شرحت لي عن بعض الحالات، ومعاناة الناس التي رأيناها سويا. لكنها شرحت لي من ناحية طبية كيفية أن المستشفى الميداني له إمكانيات محدودة. فالوضع في المستشفيات سيئ.
في المستشفى الميداني الذي زرته وضع سيئ، واكتظاظ كبير، وحالات على مدار 24 ساعة تأتيهم وليست لديهم إمكانيات كافية. وطبعا ناهيك عندما يقع قصف على مكان معين مثل ما حدث في النصيرات، أعداد من الناس وسيل من الحالات الإنسانية ومن الإصابات تصل عندهم. عدد الأطباء محدود، والإمكانيات العلاجية محدودة، وعدد الأسِرة محدود جدا.
فهذا أيضا من اللحظات الصعبة التي مرت علي في آخر زيارة، أن أرى معاناة الناس. وتقف أمامهم عاجزا في الحقيقة.
أخبار الأمم المتحدة: ذكرت موضوع سلسلة الضربات الأخيرة التي استهدفت كذلك منطقة المواصي بخان يونس والتي خلفت عشرات القتلى والجرحى، والتصعيد أيضا يستمر حتى اليوم. كيف ترون ذلك التصعيد في ظل محاولة تقديم المساعدات لمن يحتاجونها بشدة؟
مهند هادي: لا يوجد مكان آمن في غزة، وهذه ليست أول مرة أقولها. وأنا لست أول شخص يقول هذا الكلام. أي عامل في المجال الإنساني يقول لك لا يوجد مكان أمن في غزة.
المواصي كان من المفروض أن تكون منطقة آمنة يذهب إليها الناس. المواصي ضُرِبت، خان يونس ضرِبت، جميع غزة قصِفت. بدون سابق إنذار، الناس في بيوتهم آمنون، وأطفال نائمة، وشيوخ ورجال كبار في السن رجال أو نساء جالسون ليس في بيوتهم وإنما في مراكز الإيواء وفي بعض مدارس الأونروا يتعرضون للقصف. ويضطرون إلى الذهاب من مكان إلى آخر. تعلم أن بعض الناس صاروا نازحين أكثر من 10 أو 12 مرة. ورغم كل الصعوبات، ترى الناس إنذارا جديدا أو يسمعون القصف أو يسمعون أنه في مناطق قريبة عليهم قُصِفت، يستيقظون في منتصف الليل، ويحملون أطفالهم ويساعدون شيوخهم ونساءهم في الذهاب إلى مكان يعتقدون أنه قد يكون آمنا.
لكن حتى مسيرة التنقل، تعلم أنه لا توجد سيارات ولا توجد حتى عربات في هذه الظروف، فيمشون من مكان إلى آخر سيرا على الأقدام في ظروف صعبة ومرات في الظلام، ومرات في ساعات النهار وتكون درجات الحرارة عالية - ونحن في أشهر الصيف الآن - وبدون مأوى، وبدون أكل، وبدون شراب، وبدون أي رعاية.
هناك من هم من ذوي الاحتياجات الخاصة لا أحد ينظر إليهم. فيذهبون من مكان لآخر طمعا في الأمان. يصلون إلى مكان آخر ويتم قصفهم أيضا هناك. للأسف، أعيد وأكرر غزة كاملة ليست آمنة. لا يوجد أي مكان آمن في غزة.
أخبار الأمم المتحدة: في ظل هذه الظروف هناك العديد من العوامل التي لا تزال تقف حائلا أمام العاملين الإنسانيين التابعين للأمم المتحدة لإدخال الإمدادات الإنسانية إلى غزة وتوزيعها أو توصيلها في القطاع. هل يمكن أن تحدثنا أكثر عن هذا الأمر؟
مهند هادي: هناك العديد من العوائق التي تمنع الوصول إلى الناس بالشكل الذي نراه صحيحا. هناك عوائق لوجستية بما في ذلك النقل، وحركة الموظفين، وسلامة الموظفين الذين يعملون في المجال الإنساني، والإقامات للعاملين في الأمم المتحدة، وتأشيرات الدخول. هذه كلها عقبات أمام موظفي الأمم المتحدة.
لسنا أحرارا في حركتنا. نحن نعمل في ساحة معركة في الحقيقة. ولهذا السبب هناك صعوبات كبيرة نواجهها.
في الظروف الاعتيادية التي نعمل فيها في دول كثيرة في العالم، قبل توزيع المواد الغذائية، يوجد هناك تواصل بيننا وبين الناس المحتاجين لنا حتى نعرف ما يحتاجونه. وهناك بعد ذلك عمليات التوزيع، وبعدها عمليات المراقبة حتى نتأكد من أننا قمنا بعملنا بالطريقة الصحيحة.
في غزة معظم هذه الأمور لا تنطبق، فليست لدينا إمكانية التواصل مع الفئات المهمشة، وليست لدينا إمكانية حتى التواصل مع أي جهة رسمية هناك. فتقوم الأمم المتحدة باستخدام التقديرات التي نقوم بها والمعلومات الشحيحة المتوفرة لدينا بتقديم مساعدات للناس.
وطبعا الوضع الأمني في غزة لا يخفى على أحد، وضع أمني سيء. بعض شاحناتنا تُسَرق، جزء منها يستولى عليه ناس في قطاع غزة. بعضها يُوزَع وبعضها يباع.
أخبار الأمم المتحدة: الوضع في الشمال أيضا كان صعبا، وازداد صعوبة الآن بعد التصعيد الأخير وعمليات النزوح التي زادت بشكل كبير في الأيام الماضية. هل تستطيعون في ظل تلك الظروف الوصول إلى الشمال؟ وكيف أثر ذلك على إيصال المساعدات؟
مهند هادي: غزة مقطعة الأوصال. حركتنا داخل غزة ليست سهلة. حتى المواد التي تدخل من الشمال لا تستطيع الوصول إلى باقي غزة، والمواد التي تدخل من الجنوب من معبر كرم أبو سالم لا تستطيع الوصول إلى باقي غزة.
بعدما أغلق معبر رفح، تغيرت الأمور 180 درجة لكن للأسوأ وليس إلى الأحسن. معبر رفح هو شريان رئيسي لتوصيل المساعدات لأهل غزة والمحتاجين في القطاع. لا بد من إعادة فتح معبر رفح. المعبر مهم لنا من ناحية توصيل المساعدات، ومن ناحية الموظفين، ومن ناحية إخلاء الذين هم بحاجة الى رعاية طبية خاصة سواء في مصر الشقيقة أو في دول أخرى.
لا بد من إعادة فتح معبر رفح. وبدون معبر رفح لا يتوقع منا أحد أن نكون جاهزين أو قادرين في الحقيقة على تقديم المساعدات التي يتوقعها منا العالم.
أخبار الأمم المتحدة: إذا انتقلنا إلى الوضع في الضفة الغربية، ما الذي يمكن أن يكون الأكثر إثارة للقلق في هذا الوضع المتصاعد؟
مهند هادي: هناك تحديات كثيرة في الضفة الغربية. وقلت نعم غزة هي مهمة جدا، لكن يجب ألا ننسى الوضع في الضفة الغربية. ما نراه من عنف المستوطنين، وما نراه من زيادة الاستيطان، وما نراه من تصريحات وزراء في حكومة نتنياهو يؤجج الوضع في الضفة الغربية.
الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية هو من سيء الى أسوأ. الحكومة غير قادرة على تنفيذ التزاماتها المالية، وحتى الرواتب للموظفين. هذا الوضع ينذر بانفجار في الضفة الغربية. الوضع سيء، لكن أرجو ألا يصل الوضع إلى حالة من السوء قد تشابه أو قد تؤدي إلى وضع كارثي كما هو الحال في غزة.
حياة الناس صعبة. ذهبت الى مخيمات في طولكرم وفي أريحا، والتقيت عددا كبيرا من الناس، والتقيت طلاب مدارس في مدارس الأونروا، والتقيت بعض الفتيات تتراوح أعمارهن ما بين 10 و15 سنة.
حكين لي قصصا توجع القلب. ووصفن شعورهن عندما يسمعن أن هناك عملية عسكرية، وعندما يسمعن أصوات الدبابات تدخل المخيمات، كيف يخفن على أنفسهن وأهلهن وإخوانهن الصغار.
بعضهن حكين لي أنهن يحبسن أنفاسهن خشية أن الدبابات تسمعهن. هذا ما يفكر فيه الأطفال، يحبسن أنفاسهن حتى لا يسمعهن الجنود، وحتى لا يتم قصفهن ويدخلون عليهن في البيت.
حكين لي أنهم (الجنود) يكسرون ممتلكاتهن الشخصية من هواتف وأجهزة كهربائية. كثير من هذه الأمور يعانين منها.
هناك سياسة تخريب ممنهج، وتدمير ممنهج لحياة الناس في المخيمات، وهذا أمر صعب جدا. العيش أصلا قاس في المخيمات. لكن مع كل هذا ورغم الأسى الذي تعيشه الطالبات اللاتي التقيتهن، فإن لهن أحلاما ورؤية. يرون أنفسهن جزءا من الحل، هن لسن مستسلمات للواقع الأليم الذي يمررن به.
فهناك من تريد أن تكون طبيبة، وأخرى تريد أن تكون صحفية أو ممرضة، ومنهن من يردن أن يكن مهندسات. هذا يبعث الأمل.
هذا هو جزء من عملنا الإنساني عندما تسمع هذه القصص من الجيل الجديد يصفون لك صعوبة الحياة لكن في نفس الوقت يقولون لك إنهم لن يستسلموا لهذا الواقع المرير، بل سوف يكملون دراستهم ويجتهدون بما فيه الكفاية حتى يؤمنوا مستقبلا أفضل لهم.
أخبار الأمم المتحدة: أخيرا، ما هي الرسالة لإيجاد مخرج من الحرب والتوصل الى اتفاق لوقف إطلاق النار الذي يؤدي الى وقف دائم للتصعيد؟
مهند هادي: منطقة الشرق الاوسط عانت من الحروب وويلات الحروب لسنين. لا يوجد حل إلا السلام. على جميع الأطراف أن يفهموا أن الحل الوحيد هو السلام، سلام عادل، سلام للجميع، سلام يرضي جميع الأطراف، وليس طرفا على حساب آخر. هذا هو الحل الوحيد.
يجب أن يكون المستقبل أفضل من الحاضر وأفضل من الماضي. والطريقة الوحيدة هي أن يعيش أهل الشرق الأوسط كافة بسلم.
آن الأوان أن نعيش بسلم كي يعيش أطفالنا والأجيال القادمة حياة أفضل من التي نعيشها في الوقت الحالي.